ّ الل ّ جنة العلمي ّ ة لليومية
1444 – 2023
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمــد للــه رب العالميــن والصــاة والســام
علــى المبعــوث هــدى ورحمــة للعالميــن،
سـيدنا محمـد النبـي األميـن وعلـى آلـه وصحبـه
أجمعيـن، ومـن تبعهـم بإحسـان إلى يـوم الدين.
وبعد:
فــإن مــن أهــم مــا يعتنــي بــه الخلــف لترســيخ
جهـود السـلف الحفـاظ علـى تراثهـم، وتفعيلـه
بشــكل يتواشــج مــع الركــب الحضــاري،
ليســتمد منــه الشــباب قــوة ينطلقــون منهــا
ِّ لبنــاء مســتقبل بهــي، وأفــكارا ســليمة تشــحذ
َ جهودهــم وهممهــم نحــو اإلصــاح.
ومعلــوم أن الشــيخ الحــاج مالــك ســي كانــت
حياتــه كلهــا تــدور حــول اإلصــاح بشــتى
مجاالتـه، وكان يتحـرى فـي تربيتـه منهجا ثالثي
َ األبعـاد، ويرمــز بــ )ج ُ – ج َ – ب َ ( أي »جانْ َ ــغ«
ـل« يقصـد بـه
ِّ
ُ بمعنـى: التعلـم والتعليـم، ج ُ »ج
العبــادة، »بَ ْ ــي« يقصــد بــه العمــل.
فبهــذه الثالثيــة، نجــح الشــيخ الحــاج مالــك
سـي فـي خدمـة اإلسـام واإلنسـانية ونشـر فكـره
اإلصالحــي الناجــح فــي مختلــف بقــاع غــرب
إفريقيــا.
ثـم خلـف مـن بعـده خلـف أقامـوا هـذا النهـج
علــى ســوقه القويمــة، وحافظــوا منوالــه، بــل
واصلــوا طريــق مربيهــم ومعلمهــم؛ الحــاج
مالـك سـي؛ فـي نسـج عالقـات طيبـة بيـن العبد
وربــه وبينــه وبيــن إخوتــه ومجتمعــه، وبذلــك
أعــادوا لإلنســان إنســانيته، وللمســلم إســامه.
ومــن بينهــم الشــيخ الســيد محمــد المنصــور
ّس
ســي »بــروم داري«، ذلــك العالــم الــذي كــر
حياتـه كلهـا في خدمـة اإلسـام، تعليمـا وتربية،
ّت لــه
وعرفــه بــه القاصــي والدانــي، بــل اشــتُق
فيــه كنيــة جوهريــة أبــت أن تجــد قرينــة غيــر
الشــيخ محمــد المنصــور ســي؛ فحيــن يذكــر
»بـروم داري«، تنصـرف العقـول إلـى هـذا الحبر
الفريــد، ومــا أكســبه ذلــك إال جهــوده العظيمــة
فـي الحفـاظ علـى التـراث اإلسـامي الـذي هـو
وراثــة جــده الشــيخ الحــاج مالــك ســي.
نعــم، قــد فهــم الشــيخ محمــد المنصــور ســي
»بــروم داري« شــرف هــذه الوراثــة، مبكــرا،
وفعاليــة هــذه الثالثيــة؛ لذلــك احتــزم، بأوتــاد
الهمــة والعزيمــة، لتجســيدها وتبنيهــا حرفيــا؛
األمــر الــذي جعلــه مضــرب مثــل فــي ترســيخ
جهــود جــده الشــيخ الحــاج مالــك ســي،
التــي لهــا زنتهــا الثقيلــة علــى ميــزان الثقافــة
اإلســامية، لمــا فيهــا مــن تعاليــم إســامية
وإنسـانية سـامية، لـم تـزل وال تـزال مخرجـا مـن
المشــاكل المواجهــة بيــن فينــة وأخــرى.
ولهـذا جـاء شـعار العـدد السـادس مـن »مجلـة
بــروم داري « تحــت عنــوان »الشــيخ محمــد
المنصـور سـي والمحافظـة علـى تـراث الحضرة
المالكيـة«؛ وذلـك لإلشـادة بالجهـود العظيمـة
التــي قــام بهــا مــن أجــل الحفــاظ علــى تــراث
جــده، تعليمــا وتربيــة.
هــذا، وتصــدر جمعيــة طلبــة الشــيخ محمــد
المنصــور ســي« بــروم داري« هــذا العــدد آملــة
أن يسـتفيد منـه القـراء، سـائلة موالنـا العلـي أن
يوفــق الجميــع لمــا يحــب ويرضــى.
الشيخ الحاج مود مالك صو
َّاب الشيخ محمد
َ المشرف العام على كت
المنصور سي
تواوون
2
ّــا
ّ ّ دنا محمـ د ّصلى الله عليه وسلم معلمــا ومربي
لقـ د كان سيــ
وداعيــا إلــى اللــه بإذنــه وســراجا منيــرا. فــا
ّ يشــك عاقــل فــي أنــه عليــه الص ّ ــاة والســام
ّ هــو المعل ّ ــم األول والمربــي األمثــل. فالــدارس
لســته الطاه رة يج ّ د أن دروسـه التـي كان يلقيهـا
حافلـة بالمبـادئ التربويـة التعليميـة العظيمـة التـي
تتنــاول الجوانــب التربويــة التعليميــة المختلفــة
بشــكل يبعــث علــى اإلعجــاب ويثيــر الدهشــة،
فــكان صلى الله عليه وسلم علــى هــذا المنــوال يلقــي تلــك
ّ الــدروس القيمــة ويبلــغ رســاالت ربــه بالحكمــة
وبأســاليبه الجذابــة حتــى حقــق نجاحــا ال نظيــر
َ لــه فــي تاريــخ البشــرية، ثــم خّلــف مــن بعــده
تعليـم النـاس وتربيتهـم وتثقيفهـم، ويسـتخدمون ّ علمـاء علـى مـر العصـور يقتـدون بـه فـي سـبيل
ّ األسـاليب التربويـة التـي كان يسـتخدمها معلمهـم
ّ األول عليـه أفضـل الص ّ ـاة والسـام. ومـن هؤالء
ّكلــه فــي التعليــم والتربيــة، أعنــي بــه: الشــيخ ّ العلمـاء، ذلـك العالـم الرّبانـي الـذي قضـى حياتـه
ّ محمـد المنصـور سـه ـ رضـي اللـه عنـه ـ المكنـى
بــ )صاحـب الكتاتيـب(.
ّ كان الشــيخ محم ّ ــد المنصــور معل ّ مــا بــكل
ّ معنـى الكلمـة، متفانيـا فـي حـب التعليـم، وممـا
ّ يـدل علـى ذلـك أنـه جلـس لمـدة 35 عامـا فـي
كّت ّ ـاب أبيـه يعل ّ ـم الطـاب العلـم ويربيهـم. وقـد
ُ
شــهد لــه ذلــك أخــوه الشــيخ عبــد العزيــز ســه
األميـن ـ رضـي اللـه عنـه ـ فـي قولـه: »كان الشـيخ
ّ محم ّ ــد المنصــور يبــدأ التدريــس مــن الصبــاح
ّ إلــى الليــل، يجمــع فطــوره وغــداءه وعشــاءه
فــي مجلســه دون أن يلتفــت إلــى آنيــة مــن تلــك
.1
األوانـي، وذلـك لتركيـزه علـى عملـه الشـريف«
ٌ وقــد شــهد لــه ذلــك أيضــا كثيــر مــن تالميــذه.
ّ فقـد صـدق عمـه الشـيخ الحـاج عبـد العزيـز سـه
ّ الد ّ بــاغ القائــل فــي حقــه:
ْ
َكم
ْ غير
ْتُم
ُق
ّ ِ عليم ف
ْعلم والت
ِبال
2
والبذل واإلنفاق واإلحسان
1( انظـر: ّ التصـوف السـنّي هـو المخـرج مـن المشـكالت المعاصـرة،
ّ مـن مجـات جمعيـة الشـيخ محمـد المنصـور سـه/ إصـدار 2019م،
ص .4
2 ّ ( قصيدة ألفها الخليفة الراحل الشيخ الحاج عبد العزيز سه الدباغ
وقــد كان الشــيخ محمــد المنصــور فــي
ّ مجالســه العلميــة يــدرس جميــع الفنــون التــي
تشــمل اللغــة العربيــة والشــريعة اإلســامية، مــن
فقــه، وتفســير، وحديــث، وتصــوف، وســيرة،
وأدب، ونحــو، وعــروض، ومنطــق، وبالغــة،
وغيرهــا مــن المــواد العلميــة. وفــي هــذا الصــدد
يقـول تلميـذه الحـاج مالـك صـو فـي مرثيتـه لـه:
َ ْن ٍ لي بشيخ في العروض ومنطق
م
حكم بيان سيرة وينير
من لي بشيخ في األصول وفقهها
ّها موفور
نحو نجوم كل
ّ رضي الله عنه في حقه ابنه الشيخ محمد المنصور في شهر سبتمبر
1997م، وذلك قبل وفاته بأسبوع.
3
ّ وبعــد هــذه المــدة الطويلــة التــي قضاهــا
صاحــب الكتاتيــب فــي ســبيل التربيــة والتعليــم،
ّفإنــه لــم يتقاعــد، بــل كان يواصــل هــذا العمــل
ّ الشـريف فـي المحاضـرات وفـي ليالـي المواليـد
والمناسـبات وأمـام الوفـود والدوائـر التـي كانـت
تـزوره. ولـم يـزل الشـيخ علـى ذلـك إلـى أن لحـق
بالرفيــق األعلــى عــام 2012م.
فخلــف لنــا كثيــرا مــن دروســه القيمــة
ومحاضراتــه المفيــدة ينتفــع منهــا النــاس
حتــى اآلن، وذلــك عبــر اإلنترنــت والتلفزيــون
واإلذاعــات…
وكل مــن تتبــع دروس الشــيخ منصــور يجــد
أنهـا كانـت تتميـز بالبسـاطة والوضـوح وتبسـيط
المعلومـة لذهـن المتلقـي فيفهمهـا بـكل سـهولة،
ذلــك ألنــه ـ رضــي اللــه عنــه ـ كان يســتعين فــي
ّ إلقــاء دروســه بوســائل فعالــة وبأســاليب تربويــة
ّجذ ّ ابــة ورثهــا عــن المعل ّ ــم األو ّ ل ســيدنا محمــد
صلى الله عليه وسلم، ومــن تلــك األســاليب التربويــة:
1ـ بيداغوجيا التقويم التشخيصي:
ّ وهـي عمـل إجرائـي يسـتهل بـه المعلـم عملية
التعلـم مسـتندا علـى بيانـات ومعلومـات توضـح
لــه درجــة تحكــم المتمدرســين فــي المكتســبات
القلبيــة: معــارف، قــدرات، مهــارات… كفــاءات
.3
3( انظــر: الســرطاوي عبــد العزيــز مصطفــى، التقييــم فــي التربيــة تؤهلهـم لتعلـم الحـق
الخاصــة، ط ،1 اإلمــارات العربيــة المتحــدة، دار المســيرة للنشــر
ّ هــذا النــوع مــن التقويــم يحتــل مكانــة
ّ جوهريــة فــي العمليــة التعليميــة التعلميــة فــي
ّصلى الله عليه وسلم، فإن ّ نــا ســنجده قــد اســتهل مجموعــة مــن ّ عصرنــا الر ّ اهــن. وإذا رجعنــا إلــى ســن ّ ة النبــي
األحاديــث الشــريفة بطــرح أســئلة مختلفــة علــى
ّ متعل ّ ميــه مــن الصحابــة. منهــا قولــه للصحابــة:
»أتـدرون مـن المفلـس؟ قالـوا: المفلـس فينـا مـن
ال درهـم لـه وال متـاع. قـال: المفلـس مـن أمتـي
مــن يأتــي يــوم القيامــة بصــاة وصيــام وزكاة،
ويأتـي وقـد شـتم هـذا، وقـذف هـذا، وأكل مـال
هــذا، وســفك دم هــذا، وضــرب هــذا، فيعطــى
هــذا مــن حســناته، وهــذا مــن حســناته، فــإن
فنيـت حسـناته قبـل أن يقضـي مـا عليـه أخـذ مـن
.4
ّ خطاياهـم فطرحـت عليـه ثـم ّ طـرح فـي النـار«
ومــن تلــك األحاديــث أيضــا: قــول النبــي عليــه
ّ الص ّ ـاة والسـام للصحابـة: »أرأيتـم لـو أن نهـرا
ّ ببـاب أحدكـم يغتسـل منـه كل ّ يـوم خمـس مـرات
هـل يبقـى مـن درنـه شـيء؟ قالـوا: ال يبقـى مـن
ّ درنـه شـيء. قـال: ذلـك مثـل الصلـوات الخمـس
.5 فاألحاديــث مــن
ّ يمحــو اللــه بهــن الخطايــا«
هــذا البــاب كثيــرة جــدا.
ّ وكان الش ّ ـيخ محمـد المنصـور سـي يسـتخدم
هـذا األسـلوب التربـوي فـي إلقـاءه الـدروس؛ كان
ّ يطــرح أســئلة علــى المتعلميــن، ليثيــر انتباههــم،
والتوزيع والطباعة، 2013م، ص .20
4( صحيح مسلم، رقم الحديث: .2581
5( متفــق عليــه: صحيــح البخــاري، رقــم الحديــث: ،528 ومســلم:
.667
4
ّ ويحـرك ذكاءهـم ويقـدح فطنتهـم، ثـم يسـقيهم
المواعــظ المؤثــرة والــدروس القيمــة فــي قالــب
اإلقنــاع والمحاجــات… واألمثلــة علــى ذلــك
كثيــرة، منهــا: طرحــه الســؤال علــى المســتمعين
ِ بمناســبة إحيــاء ليلــة مولــد ب ِ مدينــة ت َ ــو َاو ْن عــن
ســبب طــواف الكعبــة مــن الجهــة اليســرى مــع
أن اإلســام يأمــر التيمــن فــي جميــع األعمــال
ّ الصالحـة. ثـم بعـد ذلـك جـاء الشـيخ بالجـواب
مــع أدلــة مقنعــة.
ومنهــا أيضــا: طــرح أســئلة علــى تالميــذه
عــن أول حيــوان بعثــه اللــه، فأتــى واحــد منهــم
باآليــة الكريمــة: »فبعــث اللــه غرابــا يبحــث فــي
6 ّ « ثــم جعــل الشــيخ هــذا الجــواب
األرض…
نقطــة االنطــاق إللقــاء درســه.
كان الشــيخ حريصــا علــى هــذا األســلوب
الــذي أصبــح يعــرف فــي ظــل البيداغوجيــات
الحديثــة بالتقويــم التشــخيصي، الــذي يســتحب
ّ للمــد ّ رس أن يســتهل ِ بــه درســه؛ قصــد جمــع
بيانــات ومعلومــات عــن قــدرات ومعــارف
ّ متعلميــه ومواقفهــم المســبقة، قبــل أن يلقــي
بالمعــارف الجديــدة.
2ـ بيداغوجيا المثال:
ال يخفــى علــى أحــد مــا للمثــال مــن أثــر
ّــة
فــي توضيــح المقــال، وإخــراج األلفــاظ الخفي
6( سورة المائدة، اآلية: .31
إلــى الجليــة، وتقريبهــا إلــى األذهــان فــي صــورة
ّ قريبــة تزيــد المعانــي وضوحــا ودقــة ورســوخا،
ّـة هـذا األسـلوب فـي مجـال التربيـة
وتـزداد أهمي
والتعليــم، وعلــى هــذا كان المعلــم المثالــي
ودروسـه بضـرب المثـل ممـا يشـهده النـاس بـأم ّ الرســول صلى الله عليه وسلم يســتعين علــى توضيــح مواعظــه
أعينهــم، ويقــع تحــت حواســهم وفــي متنــاول
أيديهـم، ليكـون وقـع الموعظـة فـي النفـس أشـد،
وفــي الذهــن أرســخ. ومــن أمثالــه المشــهورة:
ّ قولـه صلـى اللـه عليـه وسـلم: »مثـل الجليـس
ّ الص ّ الــح والســوء كحامــل المســك ونافــخ
7 وغيــره مــن األحاديــث الشــريفة.
الكيــر…«
وكان صاحــب الكتاتيــب ـ رضــي اللــه عنــه ـ
يسـتخدم هـذا األسـلوب التربـوي فـي كثيـر مـن
األحيـان؛ بغيـة تقريـب المـراد، وإيصالـه للذهـن،
وي َ عقــل ُ ، فــكان ي ّمثــل البعيــد بالقريــب،
ُلي َ فهــم ُ
والمجهــول بالمعلــوم، والمعنــوي بالمحســوس.
فقـد دحـض الشـيخ محمـد المنصـور فـي إحـدى
محاضراتـه دعـوى المتمشـيخين الذيـن يضمنـون
ُ دخـول الجنـة ألتباعهـم الذيـن ي ّ ضيعـون الصـاة،
َفأتــى بمثــال يوضــح فيــه عجــز هــؤالء الرجــال
المدعيـن عـن ضمـان الجنـة ألصحابهـم، وذلـك
ّ فــي قولــه: »لــكل شــيخ مــن هــؤالء الشــيوخ
حبيــب أو تابــع مســجون فــي الســجن المســمى
بــ 100 متـر، وال يسـتطيع أن يخرجـه مـن ذلـك
7( متفق عليه: صحيح البخاري، رقم الحديث: ،2101 ومسلم:
.2628
5
السـجن. فـإذا كان األمـر كذلـك فمـا بالهـم يـوم
القيامــة؟«.
ُ كان الشـيخ منصـور يكثـر مـن توظيـف هـذا
ّ األســلوب التربــوي بدقــة وعنايــة لدرجــة تزيــل
ّ اللبــس عــن األذهــان، وتطــوع النفــوس لتقبــل
علــى الــدرس دون ريــب أو إبهــام. »فبالمثــال
ُضــح المقــال«.
ّيت
3 ـ اســتخدام الوســائل التعليميــة
المحسوســة:
ّ الوســيلة التعليميــة هــي كل وســيلة تســاعد
ّ المعلــم علــى توصيــل المــادة العلميــة للمتعلــم،
وتســتخدم كجــزء أساســي لتيســير إجــراءات
التدريــس. ولهــذه الوســائل أهميــة كبيــرة، إذ
ّ أنهــا تعمــل علــى زيــادة انتبــاه المتعلميــن حيــث
تثيــر الحــواس، ممــا يدفعهــم للتركيــز والتدقيــق
ّ فــي متابعــة أحــداث التعلــم. وكان المعلــم األول
ّ عليــه الص ّ ــاة والســام يســتغل هــذا األســلوب
حتــى يتســهل للمتعلميــن الفهــم الســريع، فــكان
يســتخدم أحيانــا الحصــى، وتــارة أخــرى العصــا
أو غيرهـا. فقـد روي عـن علـي ابـن أبـي طالـب
رضــي اللــه عنــه قــال: »أخــذ رســول اللــه صلى الله عليه وسلم
ّ حريــرا بشــماله، وذهبــا بيمينــه، ثــم رفــع بهمــا
ّ يديـه، فقـال: »إن هذيـن حـرام علـى ذكـور أمتـي،
.
8
ّحــل إلناثهــم«
ّ كان معل ّ منـا الشـيخ محمـد المنصـور يقتـدي
8( أبو داود، رقم الحديث: .4057
بالنبــي صلــى اللــه عليــه وســلم فــي اســتغالل
هـذا األسـلوب، قـد رأينـاه فـي ليلـة مولـد يفسـر
اآليــة »اللــه نــور الســموات واألرض مثــل نــوره
كمشــكاة فيهــا مصبــاح المصبــاح فــي زجاجــة
9« وكان الشــيخ فــي ذلــك الحيــن
ّ الزجاجــة…
يسـتعين فـي الشـرح والتفسـير بالمصبـاح الـذي
يحملــه ابنــه الشــيخ حبيــب ســه الــذي كان ينيــر
لــه، ويفســر اآليــة تفســيرا واضحــا.
4 ـ األسـلوب القصصـي المـزود بالعبـرة
والموعظة:
هـو أسـلوب لـه تأثيراتـه النفسـية، وانطباعاتـه
الذهنيـة… وقـدا سـتعمله القـرآن الكريـم فـي كثيـر
أقوامهـم. والسـنة النبويـة أيضـا مليئـة بالقصـص، ّ مــن المواطــن، الســيما فــي أخبــار الرســل مــع
وكل منهــا تكــون مصحوبــة بالــدروس والعبــر.
ّ وكان الســيد محمــد المنصــور يحكــي
لمســتمعيه قصصــا كثيــرة مــن القــرآن الكريــم
وقصـة أصحـاب الكهـف، وقصـة إسـماعيل عليه ّ والسـنة النبويـة، منهـا: قصـص األنبيـاء والرسـل،
السـام مـع زوجيـه، وغيرهـا مـن القصـص التـي
لهــا إيحاءاتهــا المؤثــرة، وحساســياتها البالغــة،
ّ واهتزازاتهــا الضاربــة علــى أوتــار القلــوب، ثــم
يسـتخرج مـن القصـة أهـم مواطـن العبـرة والعظة
ليكــون التأثيــر أبلــغ.
9( سورة النور، اآلية .35
6
7
5 ـ دمج الدرس بالمزاح:
وذلــك لتحريــك الذهــن، وتشــويق النفــس،
وإذهـاب الملـل. وكان النبـي صلى الله عليه وسلم يمازح أصحابه
وهـذا مـن طيـب أخالقـه وحسـن معشـره، لكنـه
مـا كان يقـول إال حقـا، وفـي هـذا الصـدد يقـول
الشـيخ الحـاج مالـك رضـي اللـه عنـه:
ْ
مهم
ِّ
ْيان يُسل
ّ َ ا عبيد وِصب
إم
10
حق ما إليه نُمي
ٍّ
ْر
ُ َم ٌ ازح َ غِي
م
وكان يســتغل الممازحــة فــي التعليــم
والتوجيــه. مــن هــذا: مــا رواه أنــس رضــي اللــه
ّ عنــه قــال: »إن ّ رجــا جــاء إلــى الرســول صلى الله عليه وسلم
يسـتعمله بعيـرا مـن الصدقـة ليحمـل عليـه متـاع
بيتـه، فقـال رسـول اللـه صلى الله عليه وسلم: إنـي حاملـك علـى
أصنـع بولـد الناقـة؟ فقـال رسـول اللـه: وهـل تلـد ّ ولــد الناقــة، فقــال الرجــل: يــا رســول اللــه مــا
اإلبــل إال النــوق؟«.11 فأفهمــه صلــى اللــه عــن
10 ّ ( بــاه، محمــد الســعيد، نيــل األرب مــن خــاص
الذهـب للشـيخ الحـاج مالـك سـي، ط ،3 مصـر، مركـز
النجاســي العلمــي، 2017م، ج ،3 ص 271.2
11( أخرجه أبو داود، رقم الحديث: ،4998 والترمذي:
…1991
ً طريـق المـزاح أن الجمـل ولـو كان كبيـرا يحمـل
األثقــال مــا يــزال ولــد الناقــة. وهــذا كثيــر فــي
ّ مزاحــه عليــه الســام.
ّ وكل مــن تابــع محاضــرات الســيد محمــد
المنصـور ودروسـه يجـد أنـه كان يسـتعمل أحيانـا
هــذا األســلوب التربــوي فــي التعليــم واإلرشــاد.
وكان المتعلمــون يشــعرون بالنشــاط والحيويــة
عنــد مــا يتابعــون دروســه، وذلــك الســتخدامه
أســلوب دمــج الــدرس بالمــزاح إلــى جانــب
ُ إلمامـه بالفنـون التـي كان ي ّدرسـها، فيكـون ذلـك
ً وقايـة للنفـوس مـن الملـل والسـآمة، وحفـزا لهـا
علــى النشــاط فــي اســتقبال الــدرس.
6 ـ أسلوب التشجيع والتحفيز:
ّ إن التشـجيع يعتبـر وقـود الحيـاة، فهـو يولـد
الرغبــة واالســتعداد للعمــل، ولــه ســحر عظيــم
فـي حفـز الهمـم وتحريـك الطاقـات، وعلـى هـذا
اهتــم المربــون بــه غايــة االهتمــام فــي العمليــة
التعليميـة التعلميـة، وكان ذلـك المربـي الناجـح
ّ صلـى اللـه عليـه وسـلم يسـتخدم هـذا األسـلوب
التربــوي، واألحاديــث مــن هــذا البــاب كثيــرة.
ّ
ّ وصاحبنـا الشـيخ محمـد المنصـور قـد اقتفـى
ّ بآثـار حبيبـه صلـى اللـه عليـه وسـلم فـي اسـتعمال
هـذا األسـلوب التربـوي، فـكان يشـجع تالميـذه
أحيانــا بالكلمــة الطيبــة حينــا عنــد مــا أصابــوا،
ويمنــح الهدايــا أحيانــا أخــرى… وقــد رأينــاه
مـرارا يعطـي الهدايـا لمـن أجـاب عـن سـؤاله أو
للمنشـدين الذيـن يأتـون بأبيـات قصيـدة تناسـب
مضمــون درســه.
تلكــم بعــض األســاليب التــي كان يتبعهــا
ّ المعل ّ ــم والمرب ّ ــي الشــيخ محمــد المنصــور ســه
ّ فــي توجيــه الكبــار وتعليــم الصغــار، وتثبيــت
الفضائــل، وتقويــم االعوجــاج… فهــي ـ كمــا
رأيتـم ـ وسـائل مختلفـة، وطرائـق متنوعـة ورثهـا
ّ عـن المعل ّ ـم األول، ومنقـذ البشـرية سـيدنا محمد
ّ صلـى اللـه عليـه وسـل ّ م. جـزى اللـه الشـيخ محمد
المنصــور ســه عــن األمــة اإلســامية خيــرا.
ّ بقلم محم َ د المنصور س ْي َ ابن الحاج عثمان سي
مدينة فال ـ اتياس
وجــوم عميــق يســدل ســتاره علــى أحيــاء
المدينــة، وغطــاء دامــس اللــون يكتســح
جوانبهـا وأزقتهـا، وحـزن رتيب يسـود سـاكنيها
والقاصديــن الحاجيــن إليهــا، وتــكاد مراكــب
القــوم ودوابهــم تترجــم بمشــيتها وتحركاتهــا
شــعورهم وأحاسيســهم الكامنــة فــي دواخــل
نفوســهم وخلجــات أفئدتهــم؛ تتعثــر أقــدام
النــوق النجائــب حينــا، وتوشــك أن تــزل فــي
عراصهــا وطرقهــا حينــا آخــر، وكأنهــا تســتثقل
حمــا، أو تشــكو مــن علــة ألمــت بهــا، ويهيــم
الزائـر العـارف بأزقتهـا ورسـوم ديارهـا، وكأنـه
ضــل طريقــه، أو لــم يعــد يهتــدي إلــى مبتغــاه،
يخيــل للناظــر أن ســحبا متراكمــة الكثافــة
والدكنـة تجثـم علـى صـدر هـذه المدينـة تخنـق
أنفاســها، وتحــول مــن تســرب النــور والهــواء
إلــى خياشــيمها، وعيــن هــذه المدينــة يبــدو
ّمــا، إنهــا كالغــادة الخجولــة،
أكثــر تأثــرا وتأل
تأبـى لهـا كبرياءهـا ومروءتهـا أن تطلـق العنـان
لصرخـة فؤادهـا ونحيـب صوتها، وأن تسـترخي
العضــات منهــا للطــم خدهــا وشــق جيوبهــا،
ففيهــا بقيــة وازع وزاجــر تمنعهــا مــن البــوح
واإلفصــاح بآالمهــا ومآســيها.
أطيــاف لشــخوص هائمــة تحــوم حــول
المعالــم البــارزة لهــذه المدينــة، فمــا مــن شــك
أنهــا تواصــل وظيفتهــا فــي اينــاس وايــاف
القلـوب التـي أحبتهـا، وألفـت رؤيتهـا واعتـادت
االلتقـاء بهـا، فعلـى جـدران وسـكك وطـرق هـذه
المدينــة تلــوح بصماتهــم الماديــة والمعنويــة،
وترتســم كالنقــش المنحــوت علــى القلــوب
ثباتــا وبقــاء، وال غــرو، فمعــدن هــذه األرواح
البرزخيــة وثيقــة الصلــة ومتينــة االرتبــاط بتربــة
هــذه المدينــة التــي نشــأت فيهــا، ورأت النــور
ألول مـرة فـي بقعهـا ومحالهـا، ال تبـرح خياالتهـا
وأشـباحها تشـرق للقاطنيـن فيهـا فـي العديـد مـن
المناسـبات واآلونـة، وتلـك سـيرتها المألوفـة فـي
تجديــد أواصــر االنتمــاء واالنتســاب إلــى هــذه
األرض التـي كانـت فـي يـوم مـا مسـقط رأسـها،
وعاشــت علــى ظهرهــا أيامــا مــا، ثــم غــدت
أجسـادها دفيـن ترابهـا، وال تـزال وشـائج الحـب
ّ والمــودة والتعلــق تشــدها إلــى أهلهــا وديارهــا،
ينــدر أن يخلــو أحاديــث النــاس الذيــن تشــرق
عليهـم شـمس هـذه المدينـة الموحشـة مـن ورود
أســمائهم وألقابهــم فــي الحــوارات واألحاديــث
اليوميـة المتداولـة بينهـم، وكأنهـم بذلـك ينوبـون
عــن المدينــة الصامتــة فــي االعتــراف واإلفشــاء
بســرها المكتــوم والفضــح بخبئهــا المدفــون،
تضامنــا وتعاطفــا منهــم مــع الحالــة النفســية
البئيســة التــي تحياهــا.
مفجوعـة المـدن فـي أعـز أبناءهـا؛ لـم تخـرج
بعــد مــن فتــرة حدادهــا، ولــم تســل بعــد مــن
مصيبتهـا، لـم تنسـها األيـام المتواليـة أو تخفـف
عنهــا ســاعاتها المتتابعــة، ولــو قليــا صدمــة
ُ
مصابهــا، وجســامة بلواهــا، كأنــي فــي بكاءهــا
هــؤالء األبنــاء تبكــي وحيدهــا المفقــود، وتحــن
إلـى وليدهـا المـوؤود، وتسـتطلع اآلفـاق، مؤملـة
ّ وراجيــة فــي يــوم قريــب، علــه ســتزف إليهــا
بشــرى قافلــة تحمــل إليهــا قميــص يوســف،
فترتــد بصيــرة، ويعــود لهــا ســابق عهدهــا
وســالف عصرهــا، وهيهــات لهــا!! تشــبه فــي
ّ صبرهــا يعقــوب، ومــا أمــر الصبــر علــى بــاء
8
ّ وقضــاء، إذا نــزال بالمــرء ال رد لهمــا وال حيلــة
تنفــع معهمــا، حديثهــا فــي مجالــس القــوم
ونواديهــا يقتصــر علــى تعــداد مناقــب أوالدهــا
ومزاياهـم، تبـث حزنهـا، فيـكاد ينفطـر لـه القلـب
كمـدا وأسـى، لـم تحسـس فـي بقيـة الذريـة عـن
بديــل »لدباغهــا« و»منصورهــا« و»مكتومهــا«
و»أمينهـا« إنهـا ترفـض أن تسـتغني بالباقيـن مـن
هـؤالء األوالد، وتسـتبدل بهـم أولئـك الراحليـن!
يرثــي لحالهــا مــن رأى صورتهــا، ناهيــك عمــن
ســمع بحكايتهــا!
مـا الصبـر؟ مـا التجلـد؟، مـا نسـيان الماضي؟
هـي معـان فقـدت قيمتهـا فـي قامـوس حياتهـا،
واســتبدلت بمعانــي »الوفــاء، األمانــة، االمتنــان،
االعتــراف بالجميــل«، آلــت علــى نفســها أال
تتوقـف عـن تذكـر أبناءهـا، وعـن البـوح بحنينهـا
إليهــم، ال عتــاب يجــدي معهــا وال عــذل، فــي
عـرف هـذه المدينـة العريقـة ال شـيء يعـادل فـي
ّ الــوزن وال فــي القيمــة وال فــي الكــم فقــد ابــن
عزيــز أو وفــاة ولــد بــار، يشــتد األلــم والوجــع
بهـا تـارة، ويخـف بهـا تـارة أخـرى، تبـدو حينـا
وكأنهــا تقبلــت علــى مضــض حياتهــا، وقــررت
أن تعيــش واقعهــا، وترضــى بقضــاء ربهــا، غيــر
أنهــا فــي رمشــة عيــن وارتــداد طرفــة؛ ال تلبــس
أو تعاودهــا موجــات ذكرياتهــا، أمــام حوائــط
المبكــى المبثوثــة فــي أرجــاء جســمها الهزيــل،
وكل المواسـم وكل التواريـخ فـرص لهـا لتجديـد
التذكيــر بمأســاتها وكربهــا وبالءهــا، ومالــي
أراهــا شــديدة الوجــوم، شــاحبة الوجــه، مقطبــة
الحاجــب، عابســة األســارير؟ تــدور فــي ســعيها
كالحائـرة، تطيـل الوقـوف، وتكثـر االلتفـات إلـى
ذلـك الضريـح القابـع في محـل بين المسـجدين،
ّ وكأنـي بهـا ترجـي النفـس بلقـاء الحبيـب هنـاك،
أم أنهــا تريــد زيــارة »المنصــور«؟.
ّ غريــب أن تظــن روح هــذه المدينــة بأنــا ال
نعــرف ســر الكآبــة ومبعــث الحــزن والقتامــة
ّ المخيـم علـى صدرهـا، هـي تراهـن على أنا نسـينا
ماضيهــا المشــرق البهيــج، وعصرهــا الذهبــي،
الــذي كان فيهــا قبلــة الوارديــن والقاصديــن،
والـذي كان يجعـل منهـا مدينـة مغبونة ومحسـودة
مــن بيــن المــدن التــي تذخــر بهــا ربــوع هــذا
ّ الوطــن الغالــي علينــا جميعــا، هــي تتجاهــل أنــا
اكتشــفنا مــن هــم األبنــاء الذيــن ال تــزال تبكــي
فراقهــم بدمــع مــدرار غزيــر؟ وتنــدب بلوعــة
وحرقــة شــديدين غيابهــم، تبعــد وجههــا عــن
أعيــن ناظريهــا، وكأنهــا تحــاول عبثــا أن تخفــي
معالـم هـذه المسـحة الحزينـة علـى جبينهـا، وأن
تمنــع الدمــوع مــن إغــراق خدودهــا الجميلــة،
وعبثــا تزعــم بأنــا أيضــا نجهــل مــدى التقديــر
واإلعجــاب اللذيــن تحتفــظ بهمــا لبعــض مــن
أوالدهــا الذيــن رحلــوا عــن عالمهــا، تخفــي
علـى اسـتحياء دالئـل اعترافهـا بامتنانهـا ألولئـك
األســاف الخيــار مــن أوالدهــا البــررة، والذيــن
ســجلوا فــي صفحاتهــا الناصعــة أروع الســير،
وأجمـل الحكايـات التـي تتفاخـر بهـا بيـن المدن،
إن الواجـد المشـتاق تفضحـه تصرفاتـه وسـلوكه،
وتكشـفه دموعـه وحنينـه الدائـم إلـى أمسـه الـذي
يشــتاق إليــه.
كان لتــواوون ابــن يلقــب »بالمنصــور«،
ذي الثغــر الوضــاح، والقلــب الوثــاب، والــروح
الخفيفــة، والهمــة العاليــة، والحكــم الغاليــة،
والنكـت الفريـدة، فـي حياتـه لـم يتـرك فراغـا إال
ومـأه، وال ميـدان علـم إال واقتحمـه، وال مكرمـة
إنســانية إال وســبق إليهــا، يســتقبل فــي رحــاب
داره وفــود الزائريــن بمحيــاه الطلــق والضحــوك،
ّ ويهـش ّ ببشـر وجهـه فـي وجوههم باشـا ومحتفيا،
يقسـم علـى ضيوفـه كـرم ضيافتـه، وزاد خيراتـه،
ويؤثرهـم علـى نفسـه وأهلـه، يأسـر بطيـب قولـه
قلــوب الوارديــن، فــي مجلســه تطغــى شــخصيته
علـى شـخصيات جلسـائه، فـا يتمنـون سـكوته،
وال يملــون حديثــه، وال يقطعــون حديثــه، وال
يعملـون إال بتوجيهاتـه، راق للغربـاء حديثـه قبـل
ُ الع َرفـاء، وارتـاح لغنـاءه أصحـاب الشـجون قبـل
أصحــاب الوجــد والهيمــان.
»منصــور« تــواوون، كان فخــر مدينتهــا،
وحامـل رايتهـا ومظهـر مزاياهـا، ومعلـي شـأنها،
وخطيــب مجالســها، ســحبان ناديهــا فصاحــة
وبالغـة، ومالـك حلقاتهـا فقها وحديثا، وسـيبويه
مسـائلها اللغويـة دراسـة وتحقيقـا، وابـن هشـامها
ســيرة وتاريخــا، وزهيرهــا مدحــا ونظمــا، كان
ّه فــي حكمــه ودرره وطرفــه،
الــوارث لســر ســمي
ومفسـر ديـوان جـده تفصيـا وتوضيحـا، يتـوارد
علــى مجلــس علمــه رواد العاشــقين للســيرة
المحمديـة، وجمهور المتعطشـين ألنـواره النبوية،
ّ فيشــن ّ ف بطيــب أقوالــه أســماعهم، ويمتــع ببليــغ
9
شـروحه آذانهـم، كان بخفـة روحـه يأسـر ألبـاب
المتحلقيــن المنصتيــن لــه، فيســتوعبون أحســن
القــول مــن مواعظــه، ويســتزيدونه علمــا ممــا
وفـق إليـه، فكـم مـن مسـألة معرفيـة قتلهـا بحثـا
وتنقيبــا! وكــم طرفــة ذهبيــة رمــى بهــا إلــى رواد
مجلسـه وأتحفهـم بهـا! وكـم مـن مزحـة فكاهيـة
ّضم ّ نهـا عبـرا ودروسـا حملهـم إياهـا فاسـتفادوا
منهــا!
ذلـك الشـيخ »المنصـور« كان كافـل طـاب
َ العلــم والمعرفــة فــي دارتهــا وكتاتيبهــا، وِس َ ــعهم
َ بقلبـه وديـاره، وبقـدوره وجفانـه، قبـل أن ي َس َـعهم
بعلمـه ومشـيخته، تسـعده رؤيتهـم واللقـاء بهـم،
وتمتعــه محادثتــه الطويلــة معهــم، يســتظهرهم
إبداعاتهــم النظميــة، ويستحســن مــن مجيدهــم
ّ قرائحهـم الشـعرية، ويشـجع علـى المضـي والجد
بشــرا وســعادة، وهــو يغــوص معهــم فــي حــل ّ مجربهــم، وكنــت تــرى أســارير وجهــه تتهلــل
المسـائل العروضيـة واللغويـة، ويسـتقرئ الحكـم
ّ والفرائـد مـن فصـول »الخـاص« وأبوابـه، تبنـى
صغارهــم، وتآخــى مــع كبارهــم، وأكــرم وفــادة
ّ خواصهــم، وأفــاض الهبــات والهدايــا لهــم، كان
يســخى علــى زواره منهــم بأجــود مــا لديــه مــن
مـال ومتـاع وديـار، عرفـوا عنـه كرمـه الحاتمـي،
فقصـدوا مجلسـه يطلبـون علمـه ونصحـه ونوالـه.
ذاك االبـن البـار؛ كان يعـرف فـي أوسـاط أهل
الفــن وأهــل االختصــاص بلقــب »بــروم داري«،
لــم يســع إلــى هــذا اللقــب تفاخــرا، ولــم يــدع
ذلــك اللقــب تنافســا يومــا مــا، رآه عليــة القــوم
وأصفياءهــم أهــا لــه وجديــرا بــه، فوســموه بــه،
وسـلموا لـه رايـة القيـادة طوعـا وانقيـادا، وبايعـوه
سـمعا وطاعـة علـى إمـرة »داري«، غـاص بحـور
الشــعر، وركــب أمواجــه، وانقــادت لــه القوافــي
ّه والمقتفـي لخطـاه، في
والنظـم، وكان صنـو سـمي
روعة السـبك، وقـوة المعانـي، وجزالـة التراكيب،
كان يبهـر نخـب الجهابـذة إذا جـال فـي مياديـن
الســيرة والتاريــخ، ويســكت الثرثاريــن إذا أفتــى
فـي مسـائل الديـن مـن غيـر تكلـف وال تصنـع،
ُ وقـد كان م َ حيـي المواسـم المولديـة، ألفـت رواق
المســجد ترجيعــات صوتــه االنشــادي، وهــو
ّ يســل ّ م ويصلــى علــى الحبيــب والرســول، الــذي
قضــى حياتــه كلــه يبشــر بجمــال خلقــه ونبــل
ســيرته.
لقــد كان »منصــور« القــوم إنســانيا فــي
نزعتــه، أفريقيــا فــي حساســيته، ســنغاليا فــي
ثقافتــه وعاداتــه، مســلما فــي هويتــه وانتمــاءه،
متواضعـا وبسـيطا فـي أعرافـه وتقاليـده، محافظـا
ووفيــا للتــراث األصيــل الــذي ورثــه كابــرا عــن
كابـر، ظـل ذلـك المرابـط علـى الثغـور، المقـاوم
للتيـار، المنـاوئ للتغييـرات التـي تحدث شـروخا
وتصدعـات فـي جـدران المحافظـة علـى الهويـة
التاريخيـة لهـذه المدينـة التـي أنجبتـه، آثـر اإلقامـة
فــي قراهــا وأريافهــا علــى النــزوح إلــى المــدن
والحواضــر، وقــد رحــل وأبقــى مــن بعــده ذكــرا
حســنا وأثــرا مجيــدا، ولئــن بليــت يــا »تــواوون«
ّسـل َ يك
ُ بفقـد ابـن علـى مقامـه ومرتبتـه، فلسـنا بم ِ
فــي مصابــك إال أن نقــول:
وما مات محمود الخصال وإنما
تنقل من هذا الفناء إلى الخلد
سيبقى له الذكر الجـــميل مؤبدا
تمـــر به األيام حاليـــة األيدي
سمب أم جو
10
بســم اللــه الرحمــن الرحيــم والصــاة
والســام علــى الفاتــح الخاتــم الهــادي إلــى
صـراط المسـتقيم وعلـى آلـه وصحبـه أجمعيـن.
م ن لط ف الل ه تعالـى ورحمتـه علـى عبـاده
َ المؤمنيـن أن هيـأ لهـم فرصـا ومناسـبات وأزمنـة
يكــون فيهــا الوصــول إليــه أســرع، والدخــول
إلىـ بابـه أسـهل،}إن لربكـم عزوجـل فـي أيـام
دهركــم نفحــات فتعرضــوا لهــا، لعــل أحدكــم
أن تصيب ه منه ا نفح ة ال يش قى بعده ا أب دا{
ّ بــل نــو ُ ع لهــم العبــادات لي ُ قبــل إليــه الخلــق ّ كل
حســب طاقتــه واســتعداده. فعبــد يدخــل إليــه
مـن بـاب الصيـام، وآخـر يصـل إليـه مـن بـاب
الصدقــة، وثالــث يفتــح لــه مــن بــاب الذكــر،
وهكــذا…….. فلــو أن اللــه ســبحانه وتعالــى
حصــر الخيــر كلــه فــي إنفــاق المــال لمــا وجــد
ـدر عليـه رزقـه نصيبـا مـن فعـل الخيـرات،
ُ
مـن ق
ُ
يقـول الرسـول صلـى اللـه عليـه وسـلم:} إنكـم ال
تسـعون النـاس بأموالكـم، ولكـن ليسـعهم منكـم
بســط الوجــه وحســن الخلــق{
وذكرالله تعالى من أسـرع األبواب إيصاال
للعبـد إلـى ربه.قـال رسـول اللـه صلـى اللـه عليـه
وسـلم} أال أنبئكـم بخيـر أعمالكـم وأزكاهـا عنـد
مليككـم وأرفعهـا فـي درجاتكـم وخيـر لكـم مـن
إنفـاق الذهـب والـورق وخيـر لكـم مـن أن تلقـوا
عدوكــم فتضربــوا أعناقهــم ويضربــوا أعناقكــم
قالـوا بلـى قـال: ذكـر اللـه تعالـى{
فقـد فطـن أهـل التصـوف هـذا الحديـث
النبـ وي فطبقـوه فـ ي حياتهـ م وجعلـوه منهـ ج
سـلوك ودعـوا إليـه علـى مقتضـى قولـه تعالـى}
قـل هـذه سـبيلي أدعـو إلـى اللـه علـى بصيـرة أنـا
ومــن اتبعنــي{ فالتصــوف إذا ليــس إال تطبيقــا
عمليـا لسـنة الرسـول صلـى اللـه عليـه وسـلم فـي
التعــرض لنفحــات الرحمــن، بــل هــو محــض
ربـط قلـوب العبـاد بربهـم بـدوام الذكـر والمراقبة
}ال يـزال لسـانك رطبـا مـن ذكـر اللـه.
فليــس إنشــاء الطــرق الصوفيــة، واتخــاذ
األوراد إال م ن بــاب التعــرض لهــذه النفحــات
الرحمانيـة عــن بذكــر اللــه تعالــى.
فالصوفــي الحــق همــه كلــه هــو كيــف
يصــادف هــذه النفحــات الرحمانيــة والعطايــا
الربانيــة، فــا يضيــع لحظــة مــن لحظــات
حيات ه- يغل ب عل ى ظن ه ّ أنهــا لحظــة تنــزل
للنفحــات اإللهيــة -إال اســتغلها ،فليلــة
الجمع ة- مثـلا- ويومهــا مــن أغلــى فــرص
يترقبهــا المتصــوف- بشــغف، فيحيــي ليتهــا
بالصــاة علــى نبــي الرحمــة، ويظــل نهارهــا
مســلما علــى عيــن الرحمــة الربانيــة، كمــا ال
يفـ ّوت عصرهـا مـن مجالـس الذكـر وحلقاتـه،
لم ا ورد م ن فض ل هــذا اليوــم المباــرك فــي
كالم الصـادق المصـدوق} أكثـروا الصـاة علـي
يــوم الجمعــة وليلــة الجمعــة فمــن صلــى علــي
صــاة صلــى اللــه عليــه عشــرا{
فــكل مــا يقــوم بــه المتصــوف مــن أذكار
بكــرة وعشــيا ليــس إال مــن هــذا القبيــل، وهــو
التعــرض لنفحــات الرحمــن للنجــاة مــن لفحــة
النيـران.
ليــت شــعري، لــو فهــم النــاس التصــوف
بهــذا الفهــم لمــا ناصبــوا لــه العــداء، فالعجــب
العجـب ممـن يربـط التصـوف بالرهبنـة البوذيـة
أو الكهانـ ة النصرانيـ ة اوالشـ عوذة الهندوسـ ية .
الباحث: عبد العزيز كولي
11
بسم الله الرحمن
الرحيم
إن ســجل
التاريــخ الســنغالي
ملئـي بأعمـال بعـض
علمــاءه األجــاء
وأبطالــه األقويــاء، بيــد أن
هنـاك شـخصيات- علـى غرارهـم- لـم تسـجل
جهودهـم إال فـي سـجل اآلذان، وبقلـم لسـان لـم
يكتـب لصاحبـه البقـاء بقـاء السـجالت التاريخية
المكتوبـة، األمـر الـذي قـد يـؤدي فـي النهايـة إلى
تلبيـس المفاهيـم، وقلـب الحقائـق؛ بـل قـد تعتبر
جهودهــم ومناقبهــم- فــي القــرون القادمــة-
مجـرد أقاصيـص دراميـة بحتـة لـم تعانـق الواقـع
فــي شــيء، وأســطورة مزخرفــة لتمليــح أحــداث
التاريـخ، ولـن يكـون السـبب فـي ذلـك إال عـدم
اهتمــام معاصــري اولئــك الشــخصيات بتدويــن
أعمالهـم وتسـجيل جهودهـم فـي سـجل التاريـخ
المكتـوب قبـل أن تنخـرم ذاكراتهـم، بـل اتكلـوا
اتـكاال كليـا علـى الحكايـات الشـفهية التـي قـد
تــزاد فيهــا وتنقــص.
ومــن بيــن تلــك الشــخصيات التــي يبتهــج
بهـا التاريــخ السـنغالي، بــل والتاريـخ اإلســامي
عامــة، الشــيخ محمــد المنصــور ســي »بــروم
دارج« الــذي قضــى نحبــه فــي رســم إنجازاتــه
علــى صفحــات تاريــخ األمــة اإلســامية علــى
اختــاف زواياهــا ومتجهاتهــا، األمــر الــذي
دغــدغ بهمــة الباحــث ليتعــرض بتدويــن غيــض
مـن فيـض مواهبـه الحقيقيـة، التـي قـد يعتقدهـا
مـن ال يعـرف شـخصيتها سـيناريوهات خياليـة.
نعــم، خليــق بــذي عقــل متبصــر أن يخطــر
ببالـه أمثـال هـذا التسـاؤل – حيـن نتحـدث عـن
مناقــب الشــيخ محمــد المنصــور- أهــي خياليــة
أم حقيقـة؟؛ وذلـك لمـا اشـتملت عليـه مـن أبعـاد
متراميــة ومختلفــة، والتــي تكفــي لغيــره فخــرا
ومكانـة أن يتحلـى بواحــد منهـا.
وهــذه المقالــة تأتــي -باختصــار شــديد-
لتســليط الضــوء علــى شــخصية الشــيخ محمــد
المنصــور ســي وبعــض مناقبــه.
الشـيخ محمـد المنصـور سـي » بـروم
داري« فـي سـطور
ولــد الشــيخ محمــد المنصــور ســي »بــروم
داري« يوم السـبت /15أغطس/ 1925م الموافق
/05 صفـر/ 1344هــ، مـن أبويـن كريميـن وهما؛
الســيدة ســخن عائشــة ســيك، والســيد أبوبكــر
سـي، المشـهور بعلمـه وواليتـه، وهـو ابـن الشـيخ
الحــاج مالــك ســي حامــي حمــى الديــن وناشــر
الطريقـة التجانيـة فـي داخـل السـنغال وخارجهـا.
بــدأ الدراســة هــو وصنــوه الشــيخ أحمــد
التجانـي سـي، وهمـا فـي السـادس مـن عمرهمـا،
حيــث أخذتهمــا والدتــه إلــى الشــيخ إبراهيــم
جينــغ لتتفتــح أعينهــم علــى القــراءة وحفــظ
القــرآن الكريــم، فمكثــا عنــد هــذا الشــيخ مــدة،
ثــم حملهمــا والدهمــا إلــى الشــيخ مامــا لــوح
الـذي أنبـت فـي صدورهمـا نبـات القـرآن حسـنا،
فحفظــاه حفظــا متينــا.
وبعــد حفظــه القــرآن الكريــم، بــدأ الشــيخ
محمـد المنصـور يتـردد بيـن المشـايخ للتشـرب
ّ مــن علومهــم فنــا فنــا إلــى أن تربــع علــى كرســي
12
العلـم واعتلـى الـذروة فـي الفهـم والدقـة، وامتطى
القمــة فــي التحليــل والتفصيــل.
ومــن هنــا نصــب لــه والــده كرســيا ذهبيــا
ليتربــع عليــه مدرســا كل الفنــون المقــررة فــي
الزاويــة المالكيــة، ومربيــا علــى منــوال جــده
الشــيخ الحــاج مالــك ســي، فاستنســخ الشــيخ
»بـروم داي« فـي ذلـك –وفـق تعليمـات والـده-
منهـج جـده التربـوي خطـوة بخطـوة، وابتلـي فيـه
بـاء حسـنا ومنـي للتوفيـق بيـن التعليـم والتربيـة
والترقيـة والعمـل فـي الحقـول، فتخلـص منهـج
حياتــه فــي أحــرف رمزيــة ثالثــة:
- تَو ْ اُون ُ -ت ْولِي
ت ِيرِي ِ
ِ
ِت ِيـرِي: الكتـب؛ ويشـمل أمـور الديـن بصورته
العامــة، تعليمــا وتربيــة، تأليفــا وتطبيقــا، حمايــة
وصيانـة.
ِت َ ــو ْ اُوون: مدينــة جــده الحــاج مالــك ســي؛
ويشــير بهــا إلــى اهتمامــه بخدمتهــا والحفــاظ
علـى تراثهـا وأسسـها اإلسـامية التـي أسسـها بهـا
جــده الشــيخ الحــاج مالــك ســي؛ ومنهــا التعلــم
والتعليــم والعمــل الصالــح واألدب مــع اللــه
واحتـرام جميـع الخالئـق، والسـعي فيمـا ينفعهـم
…
يقول جده:
أال يا بني هذا الزمان دعوتكم
إلحياء دين بالعلوم أجيبوا
ُت ْول ِ ـي: الحقـول؛ وهـي مصـدر رزقـه األول، فقـد
كان يـأكل مـن عـرق جبينـه، ويصـرف مـا يقـدم
إليــه مــن هدايــا علــى عبــاد اللــه المحتاجيــن،
وهــذا حقيقــة التعفــف.
»بــروم داري« رجــل أهــاب بالعلــم
والتقــوى فاســتجابا وفــي موكبهمــا الدنيــا
ومــا فيهــا
هـذا العنـوان يجرنـا إلـى الحديـث عـن بعـض
مناقــب الشــيخ محمــد المنصــور ســي، التــي
جعلتـه يتمتـع بأبعـاد متراميـة، وصيرتـه أعجوبـة
بهـرت العقـول، وشـركت الفهـوم، وتهافـت فـي
تصورهـا المفكـرون، فهـو العالـم الـذي ال يتبختر
فـي سـاحته األغنيـاء، أيـا كان، وال يتعجـرف فـي
َ ذراه العلمــاء؛ إذ هــو فــي الفنــون أبــو ب ْجَدِتَهــا
وأخــو جملتهــا وأبــو عذرتهــا ومالــك أزمتهــا،
وأمــا فــي الثــراء فهــو واســط عقــد بيــن األغنيــاء
واألثريـاء، بـل األثريـاء عيـال لـه واألتقيـاء براعـم
لـه. فقـل بعـد ذلـك مـا يجـول فـي خاطـرك -أيها
القــارئ- مــن تصــورات خاطفــة، وتأمــات
جائحـة، وإال فدعنـي أجـرد لـك شـيئا مـن مناقـب
هـذا الرجـل، ألريحـك قبيـل أن تهيـم فـي فيافـي
تصــور أبعــاد شــخصيته. ومنهــا:
علمه وحفظه:
فمــن نوافــل القــول الحديــث عــن ضالعــة
الشــيخ محمــد المنصــور ســي« بــروم داري«
العلميـة، إذ هـو ذات العلـم ، والعلـم ذاتـه، فهمـا
وجهـان لعملـة واحـدة، فـا يتصور » بـروم دارج«
دون تصــور العلــم، والعكــس كذلــك صحيــح.
فـإذا وجـد شـيء جديـر بالقـول فهـو اسـتيعابه
الواســع لكثيــر مــن الفنــون العلميــة، حيــث لــم
يكـن لـه سـاحل ينصـب فيـه بحـر ضالعتـه لنقول
هنـا انتهـى علمـه، بـل كان بحـرا ال سـاحل لـه فـي
العلــوم الظاهــرة والباطنــة، يغــوص فــي كل قعــر
علمـي – شـريعة كان أو حقيقـة- مسـتخرجا مـن
مصافــه الآللــي والــدرر الحكميــة؛ لذلــك كانــت
ُ مجالسـه كلهـا علميـة، فـا يلحـظ منـه اسـتطراد
إلــى فكاهــة مجــردة عــن الحكمــة، أو إلــى شــأن
مـن شـؤون الدنيـا، ناهيـك عـن زخارفهـا.
فأمـا حفظـه فحـدث وال حـرج، فقـد سـمعت
13
1 يقـول عن قـوة ملكتـه الحفظية:
مـن أحـد أتباعـه
أن التالميــذ كانــوا يحملــون شــروحا مختلفــة،
خاصـة فـي حلقـة التفسـير، وكان الشـيخ »بـروم
دارج« يســتقرئ مــن جميــع الشــروح للتوفيــق
بيــن آراء العلمــاء فــي المســألة، لكــن العجــب
العجـاب فـي األمـر أن القـارئ حيـن يقفـز كلمـة
يســتدركها الشــيخ، وأحيانــا يســتبقه إلــى قــراءة
مـا بعـد الجملـة التـي يقرأهـا عـن ظهـر الغيـب،
ّ وهــذا –بحــق- ينــم عــن حفظــه القــوي لكثيــر
مـن الشـروح بلـه عـن المتـون، كمـا يؤيـد مقولـة
والـده عـن بيئـة تـواوون؛ حيـث يصـف إنجـازات
الشــيخ الحــاج مالــك ســي فيهــا قائــا:
َا
الـضي
ِّ
ََم
ـات َ ـه ِ ــا خي
ف َ ـي عَر َص ِ
ْ َتِ
َوَن َ ـصب
2
َ ِان
ْي
ِّ الــصــب
م ْ ــل َ ـــع ُ ــب
ن ْ ال َ ــغ َ ــو ِام َ ــض َ
إَّ
ِ
جرأته العلمية
الجــرأة مــن ســمات العالــم الواثــق بعلمــه
لكـن درجاتهـا تختلـف مـن عالـم آلخـر، وحيـن
نقيــس الشــيخ محمــد المنصــور بهــذه الســمة
نجدهــا منطبقــة فــي شــخصيته، ذلــك أنــه كان
يتبنـى فـي مجالسـه أسـلوب المناقشـة والمناظـرة
العلميــة، حيــث يتحــدى العلمــاء بمســائل جــد
1( الشيخ الحاج مود مالك صو، وأكده لي الباحث الشيخ طاهر فال
2( ديـوان الشـيخ أبـي بكـر سـي، االعتنـاء والنشـر: سـراج الحضـرة
المالكيــة بتــواوون. ص 79
عويصـة لسـبر مـدى تمكنهـم وفهمهـم، وقدرتهـم
علــى التحليــل، ويضــع –أحيانــا- لمناظــره
المســألة. ْ فــي المســألة خر ًجــا فــي حــال اســتطاعته لحــل
وممــا يؤيــد ذلــك – مــن زاويــة أخــرى-
مؤلفاتــه التــي يعتنــق بعضهــا مجــال المناقشــة
العلميــة، ومنهــا كتابــه الموســوم بــ« تنبيــه
المنهمــك الجاحــد لجــواز تعــدد الجمعــة فــي
المصــر الواحــد«، هــذا الكتــاب الفقهــي الــذي
أول مــا يصفــع انتبــاه الناظــر فيــه هــو عنوانــه
الــذي يعكــس أمــارات الجــرأة العلميــة.
موهبته األدبية
كانـت للشـيخ محمـد المنصـور يراعـة أدبيـة
ســيالة، وقريحــة وهاجــة ممتزجــة بنفحــات
صوفيــة رقراقــة، لذلــك كان يكتــب مــن الشــعر
أحلــى مــا ســجعت بــه بالبــل األقــام، وترنمــت
ُ بــه عصافيــر األفهــام، م ِســفرا فيــه عــن جمــال
ــرد الســنا والســناء، بقــواف ذات
ُ يزهــو فــي ب ُ
توقيــع صاعــد، وترنيــم جــاذب.
ويمكـن أن نقتضـب لذلـك مثـا -خوفـا مـن
اإلطالــة،- مــن قصيــدة لــه يصــف فيهــا والــده،
وهــو فــي القطــار إلــى دكار، ثــم نضعــك أيهــا
القــارئ تالحــظ قــدرة الشــيخ فــي حبــك الشــعر
وذوقــه الرهيــف للموســيقى الشــعرية، والصــورة
األدبيـة الراقيـة التـي أنهـل بهـا القصيـدة، يقـول :
َّ ْك ُ ـب
َ الر
َـا زَ َ احـم
ًِا به
َـى اللـهُ بَابُـور
َوق
ُْق ْط ُ ــب
تَانَ ِ ــا ب ِــه ال
َ
ُ ْط ٌ ــب أ
ْ ق
َِائُد ُهــم
َوق
نَّــهُ
َ
َِاس َ ــي كأ
َْمر
َاهُ لَ َ ــد ُ ى ك ِّل ال
تَــر
ُّتْ ُ ــب
ٌ لَــهُ الر
ِنيــر
ُ
ٌ م
نْ ُجٍــم بَ ْ ــدر
َ
َعلَــى أ
َنَا
ْه
ُِّض َ و ال
َر
َا التَّع
َ ْنِ مثُْل ِ »ك ْ يس ِ« في ذ
َوم
ْ ُب
َ ِ ا سـر
ُْختَ ُ ـانِ به
َ ال
ْـم
ِل َ ـك »بُ ْ ـوت ِ« نع
َكَذ
َا
َ ُ اخه
ُ ْي« يَر
ِْج َ « و«تَنِْغ ٌ يـج َ « »واتيَـار
َو »بَـر
ْ ُب3
ُْقــر
ُُه ُ ــم ال
َام
َر
َ ْ ــومٌ م
َــا ق
ل ِ به
ٌّ
َ ُ ــك
ف
3( الشــيخ محمــد المنصــور ســي، مجموعــة مــن قصائــده »شــذا
العطــور مــن نفحــات الشــيخ محمــد المنصــور« مــن منشــورات
جمعيــة طلبــة الشــيخ محمــد المنصــور ســي بــروم داري، بتــواوون.
14
هيئته وهيبته
تضيـع لـي الكلمـات المناسـبة لوصـف مـدى
َ روعـة هيبـة هـذا العلـم، ولـم يخطـر ببالـي وصف
أبهــى مــن وصفــه بملــك فــي قصــره بهندامــه
الفاخــر، وبجمالــه الباهــر، فهيئتــه فــي الخــارج
هــي هيئتــه فــي الداخــل، ذلــك أنــه كان يؤمــن
قـول النبـي -صلى الله عليه وسلم –» مـن أنعـم اللـه نعمـة، فـإن
،4
اللــه يحــب أن يــرى أثــر نعمتــه علــى خلقــه«
فعــا أظهــر« بــروم دارج« أثــر نعــم اللــه عليــه،
والتــي مهدهــا لــه العلــم والتقــوى والمجاهــدة
فـي سـبيل اللـه بالتعليـم والتربيـة مـن أجـل رفـع
غطـاء الجهـل عـن عيـون أمـة حبيبـه المصطفـى - صلى الله عليه وسلم،- ولــم يــأل فيــه جهــدا مــدى حياتــه،
لذلــك التفــت حولــه الدنيــا ومــا فيهــا.
فهـو بالخالصـة توفـرت فيه –عمـا وجزاء-
ؤِم ٍ ــن
ْ
م
ُ
ف َ ــس َ ع ْ ــن
َّ
َ معانــي قولــه – صلى الله عليه وسلم-»م ْ ــن َ ن
ك ْرَب ً ــة
ُ
ــه
ُ
ــه َ عْن
َّ الل ُ
ف َ ــس
َّ
الدْنَي َ ــا ن
ُّ
ك َ ــر ِب
ُ
ك ْرَب ً ــة ِ م ْ ــن
ُ
ــى م ْعِس ٍــر
َّس َ ــر َ عَل ُ
ك َ ــر ِب َ ي ْ ــوِم ْ الِقَي َام ِــة َ وَم ْ ــن َ ي
ُ
ِم ْ ــن
ــي الدْنَي َ ــا و ْال ِآخ َ ــرِة َ وَم ْ ــن َ س َــتَر
ُّ
ْ ِــه ِ ف
ــه َ عَلي
َّ الل ُ
َّس َ ــر
َي
ـه ِ فـي
َّ الل ُ
ـي الدْنَي َ ـا و ْال ِآخ َـرِة َ و
ُّ
ـه ِ ف
ُه َّ الل ُ
ُم ْس ِـلًم َ ا س َـتَر
َ ِخ ِ يــه َ وَم ْ ــن
ــد ِ ف َ ــي ع ْ ــوِن أ
ْ ُ
ْ ِــد َ م َ ــا ك َان ْ الَعب
َع ْ ــوِن ْ الَعب
ـهِ ب ِـه
ـهَ ل ُ
ـه َل َّ الل ُ
ـس ِ ف ِيـه ِ عْلًم َ ـا س َّ
َسَـل َك َ طِر ًيق َ ـا يْلَتِم ُ
ْ ٍ ـت ِ م ْ ـن
مِ ف َ ـي بي
ٌ
ن ِـة َ وَم ْ ـا اجَتَم َ ـع َ ق ْـو
َّ
إَل ْ ـى ال َج
ِ
َطِر ًيقـا
ه ْ ـم
ُ
َْن
ه َ بي
ل َ ـون ِ كَت َ ـاب َّ الل ِـه َ وَيَتَد َارُس َ ـونُ
ُ
َّ الل ِـه َ يْت
ي ِ ـوت
ُ
ب
ُ
ــة
َّ الر ْحَم ُ
ه ْم
ُ
ة َ وَغِش َ ــيْت
ُ
َّ الس ِ ــك َين
ِْه ْ ــم
ل َا نَزَل ْ ــت َ عَلي
َّ
إ
ِ
ــه ِ ف َيم ْ ــن ِ عْن َ ــدُه
َّ الل ُ
ه ْ ــم
ُ
ــة َ وَذَكَر
ُ
ه ْ ــم ْ الَمَل ِائَك
ُ
فْت
5 َو َحَّ
ه «
ُ
ـب
ي ْس ِـرْعِ ب ِـه َ ن َس ُ
ُ
ـه َ ل ْ ـم
ل ُ
َ ِ ب ِـه َ عَمُ
طـأ
َّ
َوَم ْ ـن َ ب
عباداته وإجابته
منطقــي للغايــة أن ينظــر إلــى الشــيخ محمــد
المنصــور ســي مــن زاويــة اعتنــاءه بعبــادة ربــه،
إذ النعمــة تســتوجب الشـكر المـادي والمعنـوي،
ولقــد كشــفنا فــي النقطــة الســالفة جانبــا مــن
اعترافــه بجميــل نعــم اللــه ماديــا ومعنويــا، لكــن
ــد فــي الشـكر ال يحاذيــه غيـره،
ْ التخلـي باللــه بع ٌ
وللشـيخ محمـد المنصـور سـي فيـه اهتمـام كبيـر،
6 أن ال
حكــى لــي الشــيخ الحــاج مالــك جــوب
ط.1 ص9
4( مسند اإلمام أحمد)ت241:(، تح: شعيب األرنؤوط و عادل
مرشد، ط.1 سنة 2001م. ص 33
5( صحيــح مســلم )ت: 261هــ(، تــح: محمــد فــؤاد عبــد الباقــي،
الناشـر: دار إحيـاء التـراث العربـي – بيـروت، عـدد األجـزاء: /5 ج،4
رقـم الحديـث .2699 ص2074
6( أحد تالميذ الشيخ
أحــد يعــرف مــن الشــيخ وقــت نومــه، فقــد كان
ليلــه كنهــاره، إمــا مدرســا أو باحثــا أو مطالعــا
أو ممســكا بســبحته، مــا يعنــي أنــه كان ملكــي
الــروح، وإنســاني الجســم. فمــن يــدري –إذا-
7
متــى يشــاغفه النــوم أو يســتهويه الملــل!
وأمـا إجابتـه فهـي مضـرب مثـل في السـنغال،
ُ فقــد اشــتهر بتلقيبــه –مجــازا- بــ »صاحــب
8« الــذي يســتمد منــه الكهربــاء،
َ الم ْقِبــس
ويقصـدون بـه قـوة دعـاءه وسـرعة إجابتـه- منـا
مــن اللــه- واألمثــال فــي ذلــك كثيــرة شــهدها
الحاضــر والغائــب.
الخاتمة:
هـذا، وإن الباحـث – لضيـق خنـاق البحث-
حــاول أن يضــع بيــن يــدي القــارئ صــورة شــبه
واضحـة مـن شـخصية الشـيخ محمـد المنصـور
ســي، مــع العلــم بــأن تعريفــه وذكــر مناقبــه
ال تحــده مجلــدات ناهيــك عــن صفحــات
محــدودة، لكــن للحديــث بقيــة وســوف نكمــل
حلقاتهــا فــي اإلصــدارات القادمــة.
الباحث: شيخ أحمد التجاني ساخو
7( ال يفه م مـن هـذا الكـالم أنهــ ماــ كان ينـام –جـل مـن ال تأخـذه
ســنة وال نــوم- بــل نقــرر هنــا أنــه راض نفســه علــى صبــر لــذات
الدنيــا
8( بالفرنسية électrique Prise
15
الحمـد للـه رب العالميـن، والصـاة والسـام
علــى ســيدنا محمــد خاتــم النبييــن، وعلــى آلــه
وصحبـه والتابعيـن، وتابعيهـم بإحسـان إلـى يـوم
ّ الديـن، وبعـد طلبـت منـا هيئـة التحريـر لمجلـة
)بــروم داري( التواوونيــة – وبصفتــي عضــوا
مشـاركا فيها-تقديـم مقالـة معينـة، وكان الطلـب
متأخرا،ولعـدم وجـودي فسـحة كافيـة مـن الزمـن
إلعـداد مقالـة، تعالـج جانبـا مباشـرا مـن جوانـب
الشــيخ محمــد المنصــور ) بــروم داري(، رضــي
اللـه عنـه، مـع التنبيـه بأنـي فـي اإلصـدار السـابق
مــن هذاالمجلــة الموســمية تناولــت نبــذة مــن
شعرالشــيخ محمــد المنصــورذا اللــون الثنائــي
اللغة،ولـم يتـم بعـد اسـتفراغ الموضـوع، ومراعـاة
لمالحقـة الوقـت الـذي ال ينتظـر، وكراهيـة منـي
عــدم القيــام بإنجازالمقالــة ارتأيــت تقديــم هــذه
ّ المقالة،التـي كتبتهـا سـلفا، وتتعلـق بسـيرة فقيـد
ّ األمــة والملــة الشــيخ الع ّالمــة الحــاج مالــك
ُ
ّ تــوري الملق ّ ــب والمشــهور ب: )الحــاج َ م ْ ــود
ت ِ ـوري( رضـي اللـه عنـه .فقبلنـا الطلـب اسـتجابة
ُ
للنــداء )اســتجيبوا للــه ولرســوله إذا دعاكــم لمــا
ّ يحييكـم(، وتبـر ّ كا وتيمنـا بمراجعة حيـاة صاحب
السـيرة وعلمـا بـأن سـيرة حيـاة سـادتنا المشـيخة
ّ يمثــل إشــراقات ونبراســا ينيــر الطريــق لألجيــال
ّ المتعاقبــة وخاصــة منهــم الشــباب الســالك.
والدتـه ونشـأته: الحـاج مالـك توري المشـهور
ت ِ ـوري( هـو الشـيخ العـارف باللـه
ُ
د
ُ
َ ب )س ِـر ْج َ م ْـو
الصوفــي الســني التقــي الصالــح العامــل بعلمــه
الع ّالمــة الزاهــد الــورع الفقيــه الوجيــه األديــب
اللبيـب الشـاعر الكاتـب الباحـث الحصيف،نجل
ّ الشــيخ النحريرالمقــرئ المجــود الفقيــه الحــاج
محمـد الهـادي تـوري ابـن الشـيخ الع ّالمـة شـئث
تــوري .ولــد عــام 1932م بمدينــة فــاس تــوري
المتاخمــة لمنطقــة طوبــى امبكــي. فوالدتــه هــي
الســيدة الفاضلــة الناســكة الصالحــة الورعــة
ّ عائشــة ســي بنــت العــارف باللــه مربــي األجيــال
وجبــل الســنة موالنــا الشــيخ الحــاج مالــك ســي
ّ رضـي اللـه تعالـى عنهـم. ولمـا بلـغ سـن التعليـم
ّ وبرعايــة اللــه عز ّ وجــل ّ تولــى والــده الحــاج
محمـد الهـادي تـوري تعليمـه وتربيتـه بنفسـه فـي
ّ مدرسـته التـي تعـد مـن أقـدم المـدارس القرآنيـة
فــي الســنغال، ولماحفــظ المصحــف الشــريف
وأتقنـه كتابـة وتجويـدا انتقـل إلـى دراسـة العلـوم
النقليـة والعقليـة علـى يـد الوالـد المعلـم المربـي
ْ فلزمـه وتلمـذ لـه ونهـل مـن علمـه ماشـاء اللـه أن
ينتهــل، فــكان الحــاج مالــك تــوري مــن أنجــب
تالميــذه وأوعاهــم وأفضلهــم وأذكاهــم فجمــع
أشــتات العلــوم الشــرعية والفنــون اللغويــة فــي
ّ فتـرة وجيـزة مـن الزمـن، ثـم بعثـه الوالـد وبإيحـاء
مـن خالـه الشـيخ الع ّالمـة الحـاج عبـد العزيز سـه
ّ الدبــاغ رضــي اللــه عنهمــا إلــى القاهــرة فالتحــق
ّ بجامعـة األزهـر الشـريف للتوسـع فـي التحصيـل
العلمــي، فحصــل علــى شــهادة اإلجــازة العلميــة
ّ وعــاد إلــى الوطــن مســتقرا بجانــب الوالــد فــي
مدينــة فــاس تــوري ليعينــه فــي القيــام بمهمــة
التربيــة والتعليــم ألبنــاء المســلمين. وفــي هــذه
الحــوزة العلميــة العريقــة بتحفيــظ القرآالكريــم
ّ والتعليــم تولــى الحــاج مالــك تــورى تعليــم
ّ مجموعـة كبيـرة مـن الطلبـة يدرسـهم فـي شـكل
حلقــات جماعيــة، ويتكفــل لــه الوالــد الراتــب
الشــهري، وهكــذا دام فــي فــاس تــوري يشــتغل
فـي التعليـم والتربيـة حتـى تخرجـت علـى يديـه
طائفـة مهمـة مـن العلمـاء األجـاء، ومـن هـؤالء
النخبـة الشاعرالسـنغالي األديـب العبقـري المكثـر
ّ فـي قـول الشـعر المرحـوم المفتـش شـيخ أحمـد
16
التجانــي غــي. وبعــد تلــك الحقبــة، اشــتغل
باحثـا فـي قسـم الدراسـات اإلسـامية بالمعهـد
األساســي إلفريقيــا الســوداء، بجامعــة شــيخ
ّـن
أنـت جـوب بـدكار- السـنغال، وإثـر ذلـك عي
ّ ّ ا يتولــى
الحــاج مالــك تــوري موظفــا دبلوماســي
منصــب المستشــار الثقافــي بســفارة الســنغال
المعتمــدة فــي القاهــرة، ومــن ثــم انتقــل إلــى
ّ سـفارة السـنغال فـي جمهوريـة إيـران اإلسـامية
مستشــارا ثقافيــا فيهاكذلــك.
شــخصيته ومميزاتــه: كان الشــيخ الحــاج
مالـك تـوري رضـي الخلـق، متواضعـا يلبـس مـن
الثيـاب المتوسـطة قليـل النـوم واألكل والشـرب
ّ قصـد جـذب إنتبـاه النـاس إلـى اإلهتمـام باألهـم
مــن ذلــك وال يشــغله شــيء عــن العلــم مــن
مطالــب الدنيــا أو شــؤون الحيــاة، وكان منقطعــا
ّ فـي منزلـه ال يتـردد إلـى المناسـبات االجتماعيـة
– كمـا هـو العـادة فـي البـاد – إال فـي حـدود،
وحــاالت ضــرورة. وغالبــا مــا كان يرتــاد ســوق
الكتــب إمــا لشــراء الكتــب والمراجــع بكميــات
ّ كبيــرة جــد ّ ا ثــم يوزعهــا هدايــا إلــى أوســاط
ّ المشـيخة الصوفيـة والعلمـاء وطلبـة العلـم بغـض
النظـر عـن انتماءاتهـم الطرقيـة أو لمراقبـة الكتـب
والمطبوعـات ذات العـداء والهجـوم علـى تـراث
ّ السـادة الصوفيـة، لقـد اهتـم الشـيخ الحـاج مالك
تـوري بالدعـوة إلـى اللـه تعالـى عـن طريـق نشـر
الكتـب النـادرة مـن التفاسـير فـي مجـال التفسـير
والحديـث والمصاحـف وعلـوم القـرآن واألصول
ّ واللغـة واألدب ولكـن إهتمامـه بالتصـوف السـني
أخــذ نصيــب األســد فــي ذلــك، فالتصــوف هــو
ّ لــب الشــريعة وجوهرهــا وروحهــا القائمــة علــى
األخــاق الفاضلــة والقيــم النبيلــة. وكان يقــول
كثيـرا: )بـأن الغـرض فـي التعلـم صـاح الـروح
وتهذيـب النفـس، ومصـادر ذلـك كلـه مـن العلـم
ّ األصيـل(. وكـم مـن عالـم قـد أسـس لـه الشـيخ
ّ الحـاج مالـك مكتبـة كاملـة مـزودة بنـوادر الكتـب
النفيســة.
ّ أمــا فــي جانــب العرفــان فقــد كان آيــة مــن
آيـات اللـه اليوجـد لـه فيـه نظيرفـي عصـره فيمـا
ّ نعلـم حتـى كان يقـول لـه فـي هـذا البـاب الع ّالمة
ـر ْوم َ د َارِجـي( رضـي
ُ الشـيخ محمـد المنصـور )ب ُ
اللــه عنــه علــى وجــه المــزاح، لكــن المــزاح فــي
ّ مــكان الجــد: )الحــاج مالــك تــوري ليــس مــن
جنــس البشــر، ولكنــه مــن جنــس الروحانييــن،
ّ لتمكنـه ورسـوخ قدمـه فـي علـم األسـرار،وفنون
العلــوم العرفانيــة (.
واليمكــن حصــر مجموعــة صفاتــه النبيلــة
ومواقفــه فــي ســطور، ولكــن نكتفــي باإلشــارة
إلــى أنــه قــد غلبــت علــى حيــاة الشــيخ الحــاج
مالـك تـوري نزعـة صوفيـة وحيـاة روحيـة غارقـة
ّ فـي العبـادة والطاعـة للـه تعالـى والحـب الخالص
ّد الوجـود وعلـم الشـهود سـيدنا محمـد صلى
لسـي
اللـه عليـه وسـلم، اليـكاد بيتـه لحظـة مـن الزمـن
خاليــا مــن تــاوة القــرآن الكريــم والصــاة علــى
النبـي المصطفـى، صلـى اللـه عليه وسـلم، ذا علم
غزيـر، وال يبـارى فيـه فـي مختلـف الميادين، لقد
ّ تلقــى التربيــة الصوفيــة مــن والــده وترعــرع فــي
محيــط عامــر ومفعــم بالتربيــة الســلوكية والســير
إلـى اللـه تعالـى.
وفاتـه: وبعـد حيـاة حافلـة بالجهـود المتواصلة
ّ ليـا ونهـارا فـي نشـر العلـم وعمـل البـر لسـعادة
اإلنســان فــي الدنيــا وفــوزه غــدا بالرضــوان مــن
اللــه، بــذل الشــيخ الحــاج مالــك تــوري كل
طاقاتـه وأوقاتــه فــي نشـر اإلسالم،وبســط ظـال
التصـوف إلـى جميـع األطـراف إلـى أرجـاء ربـوع
ّة
ّ السـنغال المعمـورة، وبعـد أن أد ّ ى مهم ّ تـه ال ّ برباني
ّ ونجـح فيهـا أيمـا نجـاح التحقـت روحـه الطاهرة
إلــى الرفيــق األعلــى عــن عمــر يناهــز85 عامــا،
ضحــى يــوم الجمعــة فــي داره بمدينــة تــواوون،
الموافــق /3مــارس 2017/م. ونقــل جثمانــه
الطاهـر إلـى مسـقط رأسـه، مدينـة/ فـاس تـوري
ً متـوارى بالقـرب مـن قبـر والـده الشـيخ الحـاج
محمـد الهـادي تـوري، فجـزاه اللـه عنـا كل الخيـر
ونفعنــا ببركتــه إلــى يــوم الديــن وحفــظ تعالــى
ّ علــى ذريتــه وأهلــه معافيــن وأن يديــم بقاءهــم
لمواصلــة مســيرة دربــه الشــريف.وأن يبلغهــم
مقامــات الســادة العارفيــن باللــه.
بقلم الباحث: عبد العزيز سار/ تواوون
كاتبا للشيخ محمد المنصور سه »بروم داري«
17
18
ا
ً
م ْحَتِفـل
ُ
ـت
ن َ ــي ل ْس ُ
ِّ
إ
ِ
ول َ ف
ُ
ــذ
ُ
لْلَع
ق ْ ـــل ـي ِ
ُ
َ ْكِف ِين
يل ْ ال َح ِ ـاج ي
ُ
ـل
ْ َ خي سِ
ِب ْالَع ْـذِل َ شـي
الش ْ ــوِق َ ن َادْتِن ِ ــي ب َ ــل َ ا مَل ٍ ــل
َّ
ف
ُ
ات
ِّ ــي الد ِ يــن ِ
ف َه َ ـــو
َْت ِ ــام ِ
أي
َْ
ِبــي ال
َ
َن ْح َ ـــو ْ ال َم َ ــل ِاذ أ
ََك ٍ ـم
فـي ب
ـم ِ
ف َ ـي ص َم ٍ ـم َ و ْالَف ُ
ع ِ
ُ
َّ الس ْ ـم
إَل ْ ـى الِح َو ِ يـن
حـى ِ
ذ َ ا تَل َّ
ً
إ
ك ْ ـنِ
ُ
ك ْ ـم
ُ
َع ْ ـن َ ع ْذِل
دا
ً
م ْجَتِه
ُ
ـي ال ْ لـوِم
َّ
َـا لَاِئِم ِي ف
ْ َ ـت ي
َ ْطَنب
يْغِن ِينـي
ُ
أ ِب ْ ــي ال َحِب ِ يـب
َ
ْ ِخــــي أ
ـب َ شي
ُّ
ح
ف ُ
ُ
م َض ٍ ــر
ُ
م ْخَت ِ ــار ِ م ْ ــن
لْلُ
ــةِ
ُ
ه َ ـــو ْ ال َخ ِي ِ يــن ِل َيف
ُ
د ِون َ ت ْم
ُ
ال ٍ ــك ِ م ْ ــن
م ِ
َ ْحَم ٍ ــد َ
َوأ
ة
ً
َ
ِ ْح َس ِ ـان َ ق ِاطب
لْلإ
َّ ى الن َ ـاسِ
خ َ ه َـد
ف ِ ــي حْف ٍ ــظ َ وَت ْحِس َشـي ِ ــين ٌْ
الطِر َيق َ ــة ِ
َّ
َص َ ــان
ــن
ــل َ فِط ٌ
ٌ
يــم َ ك ِام
يــن َ حِل ٌ
خ َ رِز ٌ
ْ ِ ــر َ ت ْش ِ ــي َشــي ِين ٌْ
ل ْ ال َ ــوَر ِى م ْ ــن َ غي
ِّ
ــال َ ك
ُ
م
َّ
َح
ع
ٌ
م َ وِر
ـــالٌ
يــم َ ع ِ
ٌ
يــف َ صِم
ٌ
خ َ لِط
ــك َ وَت ْخِم ِ يــن ٌْ
ٍّ
يــف ِ ب َشــي َ ــل َ ا ش
ٌ
َه ٍ ــاد َ عِف
ه
ُ
ــر ِوف ِ آم َ ـــر
ُ
ــاه َ وِب ْال َم ْع
ك ْ ــرِه َ ن ٍ
ُ
ِّ ِب ِ ـــين ْال
إ ْح َس ِ ــان َ والل
ِْ
ْ ِ ــر َ و ْالِحْل ِ ــم َ وال
ِب َ الصب
ـه
يْن َس ِ ـى م ْ ـن َ ف َص َ احِت ِ
ُ
ـب
ط ُ
ُ
َ ْخ
ــس ِ بَت ْعِي ِ يــن َ ق َ ـام ي
إ ْن ٍّ
ِ
ق
ُ
َ ْو
َ َان أ
َع ْ ـــــن ِ ذْك ِ ــر َ س ْ ــحب
ــدا
َ ً
ب
َ
ــه أ
ــط ِ ا بَو ْجِه ِ
َِس ً
مْنب
اه ُ
ُ
ف ِ ــي ب ْش ٍ ــر َت َ وَت ْزِي ِ ـــين َ ــر
مْنِف َ ــق ْ ال َ ـــم ِال ِ
ُ
َو
بــــــــــــــــسم الله الرحــــــــــــمن الرحــــــــــــــــــيم
ّد
ّدنا محمـد سـي
والصـاة والسـام علـى مـن قـال: »العلمـاء ورثـة األنبيـاء« سـي
بنـي قصـي وءالـه وصحبـه األنجـم الزاهـرة ومـن تبعهـم بإحسـان إلـى يـوم القيامـة.
وبعد:
فهـذه قصيـدة منظومـة مـن بحـر البسـيط وال يحرمنـا اللـه مـن شـرب بحـره المحيط
جــادت بهــا قريحــة أفقــر العبــاد وأحوجهــم إلــى رحمــة ربّــه مــود مالــك صــو مادحــا
ّ فيهــا شــيخه ووســيلته ومــاذه وقدوتــه ومغناطيــس قلبــه الشــيخ محمــد المنصــور
ســه)بروم داري(، وذلــك بعــد أداءه فريضــة الحــج، عــام 2006-2007 مهنئــه فيهــا
بـأداءه الفريضـة وبزيارتـه خيـر األنـام صلـى اللـه عليـه وسـلم. فقلـت:
19
َ َكٍل
يْغِن َ يــك َ ع ْ ــن أ
ُ
ــه
ــف ِين َ ل ُ
ـــه ِ
َ ُان َ و ْج ٍ
ــي َ ت ْش ِعـــي
إَل َّ
ِ
ــه
ُ
ت
َ ِخ َ ــي فَل ْحَظُ
أ
ــه
ك ِا ب َمْنَهِج ِ
ً
ــال
إَل ْ ــى الِح ِ يــن َ ــــر ِى ل َم ْ ــن َ ك َان َ س ِ
ِ
ُ ْش ِوطِه
ــر ب
ش ُ
ُ
ً ِ ا ب
م َ ـــــر ِاعي
ُ
ََنــا
مْل َجأ
ِّ ــاج َ
ــل َيل ْ ال َح
ج ِ ــان َ س ِ
َ ِّ ــا الت َّ
ب
َ
مْنَه َ ــل ْ ال َم َس أ ِ ــاك ِين
ْ َخ ْ ال َم َش ِ ــا ي ِ ــخ َ
َشــي
ك ْم
ُ
ً ِ ا م ْ ـن ِ عْنِد َ س َ ـاحِت
م ْعَتِفي
ُ
ـت
ْ ُ
ه َق ِ ـــون ْـد ِ جئ
إْذلَاِل َ و ْالُ
ِْ
الض ْع ِ ــف َ و ْالَفْق ِ ــر َ وال
ُّ
ِب
را
ر ْك ْ ــم َ وَزً
ُْ
ــا ل َ ــي غي
م َ ــر ِاد َي فَم ِ
ُ
ت ْ ــم
ُ
َْن
ِّ الد ِ يــن
أ َ و
ِّ
الــذل
ُ
ــم ِ ب
ك ُ
ُ
ت
ُْ
ََتي
ِل َ ــذا أ
ي م ْرِش ِ ــد َي و ِس َيلِت َ ـــي وَزِري
ــي َح ِاي ِ يــن ِد ُ
َ َ اس ِّ
أ ي
َْ
ل ال
َّ
ك
ُ
ـــك ْم
ُ
ق ِ ــا ب
ًّ
ــب َ ح
َف ْالَقْل ُ
ما
ً
د َ ا ك َ ـــر
ً
م ْف ِ ــر
ُ
ــج
ٍّ
ــم َ ف ْ ــر َض َ ح
ت ُ
ُْ
دي
ََّ
ف ْ ــي الِح ِ يــن
َ ْحَر أ ْم َ ــت ِ
ة أ
ً
ع ْم َ ــر
ُ
َ ْع ِ ــدِه
ِم ْ ــن ب
فا
ً
َّ الصَف َ ــا وَم ْ ــرَوٍة َ ش َ ــر
ْ َ ــن
َي
ُّ الن ِ ــون ْ َت ب
ْ َ ــت َ ال َس َ ــعي ِ لــه َ و
َي
ــا طْف َ ــت ب
ُ
م
َ ْع ِ ــد َ
ِم ْ ــن ب
مْنَكِت ِ ــم
ُ
ْ ِ ــر
ف ًوس ِ ــا ب َ ــزْوٍر َ غي
ُ
ن
ُ
ت ْ ــم
َ ِاس ِ ـــين ُْ
ــب ي
ِّ
ف َ ــي ضِر ِ يــح ْ ال ِطب ِح
ه ِ
ُ
ن ْ ـــلَت
َق ْ ــد ِ
ــه
ُ
ز ْر َت َ رْو َضَت
ُ
إ ْذ
ــيِدي ِ
ِّ
مَن َ ــى س
لد ِ يــن َل َ ــك ْ الُ
ل ِّ
ل ِ
َّ
ــك
ُ
َّ الن ُ ــاس َ ت ْه ِ ـــد ْ ي ال
ــم
ك ُ
ُ
م
َ َّ
أ
ًا
َ َ اع َجــب
أ ْخِذ ْ الِو ْرِد ي
َ
ِ
ُ ــاءوا ل
ـض َ ج
ُ
َ ْع يــن
الط َو ْالب
ِّ
أ ْص ِ ــل َ و
َْ
َل َ ــد َ ى ضِر ِ يــح َ كِر ِ يــم ال
ََهَر ْت
م ْن ب
ق َ ا ن ْح َـو َ
ًّ
ق َ ح
ُ
الش ْ ـــو
ََر ِاه َوَق ِ يــن َادَك َّ
ُ ــان ْ الب
ُ ْرَه
ه َ ــو ب
ُ
ـــه
ات ُ
َ ُ
َءاي
َ ْجَمِعِه ْم
ث ْ ال َخْلِق أ
ج ِان ِ غياَ ُ
الت َّ
خ ِ
لْلِح َشـي ِ يــن ُْ
ل ِ
ِّ
ــك
ُ
ــد ْ ال
ُّ
مِم
ُ
َّ الن َ ــد َى و
ــر
ُ
َ ْح
ب
ـم
ُ
ه
َ َالُ
1 ي
ص َ ـور ِان
ُ
مْن
ف ْ ـي ال َج ْم ِ ـع َ
ال ِ ليــن َان ِ
ِّ
إ ْح َس َوَك ِ ــان َ و
ِْ
َ ِخــي ال
يــب أ
ٌ
َك َ ــذ َ ا حِب
ـة
ً
الَع
أْقَم ِ ـار َ ط ِ
َْ
ًس َ ـا ل َـدى ال
كْن َ ـت َ ش ْم
ُ
ْ ِ ــر َ ت ْم َو ِي ِ يــن
م ِ ــوا م ْ ــنِ َغي
ل َ ق ْ ــد َ ز َ احُ
ُّ
ــك
ُ
َف ْال
ق ْط ِ ـب ِ ذ َي ك َـرِم
ُ
ض ِ ـور ْ ال
ُ
ح
ً ِ ـا ب ُ
ِّ الد ِ يــن َحب
ـا م ْر ِار َ و
َ َ
أ ْس َ ــر ي
َْ
َ ِ ــع ال
َّ الن َ ــد َى مْنب
َ ْح ِ ــر
ب
ِّدَنا
س ِ ـول َ سـي
َ ْزَك َ ـى ص َـل ٍاة َ عَل َّ ـى الر ُ
َ أ ِاد ِ يــن
َّ ِاق ْ ال َمي
ســب
ُ
َّ الص ْح ِ ــب
ْ ِآل َ و
َوال
الحاج مود مالك صو
تاب الشيخ محمد المنصور سي »بروم داري«
ُ المشرف العام على كَّ
1( الشيخ منصور سه الدبّاغ والشيخ منصور سه جميل ومحمد الحبيب منصور.
20
Leave A Comment